القائمة الرئيسية

الصفحات

النظام ... قصة خيال علمي قصيرة تأليف محمود ابو العلا



 قبع المواطن (ذ م ك 3524) جالسا في زنزانة مبطنة يرتدي قميصا طويل الاكمام جدا تلتف هذة الاكمام حوله لتشكل قيدا يمنعه من التحرك بعد ان تم تشخيص اصابته بميول انتحاريه ولذلك تم ايداعه في هذة المؤسسة حماية له من ان يؤذي نفسه . كان امامه عددا من الامور التي يستطيع ان يتحكم فيها بأفكاره مثل جهاز تليفزيون وكومبيوتر يمكنه من الاطلاع علي الاخبار المنتقاه خصيصا له بعناية وتصفح الصحف ومطالعة أي رواية او قرائة أي كتاب وكتابة روايات جديدة من تأليفه كما انه يستطيع ان يتحكم في اكله وشربه وحتي قضاء حاجته عن طريق اوامر عقلية ينفذها جهاز الذكاء الاصطناعي المركزي الفائق الذي اوكل اليه البشر التحكم في مصائرهم او هكذا كان يظن هو ولهذا تم تشخيص حالته بانه مصابا بمرض نفسي . جلس يتذكر كيف قادته الاحداث الي هذا المصير مسترجعا ما مر به في حياته وصولا الي هذة النقطة عاجزا عن ان يدرك ما هو مصيره بعد دخوله وحدة العناية النفسية الفائقة لأنه لم يعد منها احدا ليحكي ماذا حدث له لذا جلس مكتفيا بأجترار ذكرياته.

بعد ان انتهي هذا المواطن من دراسته تم تصنيفه من الفئة الاكثر صلاحية للأعمال اليدوية والتي ينتمي اليها معظم مواطني الكوكب وكان هذا القرار من - الذكاء الاصطناعي المركزي الفائق- الذي كان يتابعه طوال فترة دراسته ليحلل قراراته ويقرر كيف سيكون مستقبله. لجأ هذا المواطن الي تصرف كان يعتبر نادرا وشاذا في حفل تخرجه لا يقوم به الا شخص ما كل بضعة عشرات من السنين لكنه لم يهتم وقتها. كان كل ما يهمه ساعتها انه يشعر ان هذا الذكاء الاصطناعي علي خطأ ولذلك طالب ان يتم ارجاءه حتي يستطيع بوضوح ان يقرر الي اين سيتجه. كان يكره ان يفني عمره في اتجاه خاطئ يشعر انه لا يناسبه لمجرد ان ثمة جهاز ما قرر له سلفا هذا. لذا قوبل قراره بتعجب شديد من والديه ونظرات اشفاق من جيرانه واصدقاء اسرته ودهشة ممن ليسوا علي صلة وثيقة به. وافق مجلس الحكماء علي طلبه كان هذا يعني انه سيعيش علي الكفاف بعد ان يستخرج شريحة الكترونية يصرف بها مواد عذائية وملابس وادوية تكفيه بالكاد مقابل ان لا يطلب منه أي مهام او اعمال ويتم تفريغه ليدرس الي أي منحني يود لحياته ان تنحني به قبل ان يقرر اذا اراد العودة الي المنظومة سواء علي مكانه القديم او لمكان جديدا بعد ان يثبت جدارته له. هام علي وجهه لسنتين كاملتين لم يجد لنفسه ملجأ وملاذا الا في المكتبة الوطنية تصفح فيها الاف الكتب والروايات قبل ان ينطلق قلمه ليكتب اولي محاولاته الادبيه ويقدمه علي استحياء الي امينة المكتبة التي كان يشعر نحوها بألفة غريبة لتقرئها ولكنها وبدون علمه صعدت هذة المحاولة لرؤسائها كما تقتضي طبيعة عملها وبعد ثلاثة اسابيع كاملة جائته الاخبار بقبوله للأنضمام للنظام في فئة المبدعين اذا اراد. كان هذا يعني مزيدا من الرفاهية والتفرغ للكتابة لم يستطع ان يرفض وهل هناك في المجرة كلها من يملك ترف رفض هذة الامتيازات وتفضيل حياة الصعلكة والحرفشة التي قضي فيها عامين كاملين علي انضمامه للنظام في هذة الفئة النادرة. لم تمض سوي ايام حتي تسلم طلبية بعثها له مجلس الحكماء عبارة عن جهاز اطلقوا عليه narr-egx ليساعده في كتاباته وابداعاته. انطلق هذا المواطن في رحلته الابداعية وانهمرت اعماله عزيرة لتحتل مكانا ثابتا في الرفوف الالكترونية فقد انتهي عصر النشر الورقي وكذلك انتهي زمن البحث عن ناشر يثق في كتابات شخص ما ليساعده علي نشر اعماله واصبح التعويل الاساسي علي انهاء الكتاب وانزاله بصورة الكترونية ليستقبله الجمهور ويقرر هو مدي صلاحية العمل للقرائة والتداول. في خلال عشرون سنة كان هذا المواطن قد انهي ثلاثون رواية وكتابا نقديا ودراسة تم نشرهم وانهمك هو في كتابته ومتابعة ردود وانطباعات قراءه ومحاولة تطوير انتاجه الادبي حتي اصبح له جمهورا في شتي التجمعات السكانية علي سطح الكوكب وكذلك في المستعمرات الفضائية والكواكب الاخري التي عزاها الانسان. كان يشعر بقطعة من روحة يتداولها الناس ليقرئوها ويشيدون بها او يبدون عنها ملاحظات وكان هذا يسعده ايما سعادة ويشعره ان حياته الان اصبحت ذات قيمة لم يكن ليحققها لو كان وافق النظام وقنع انه لا يصلح سوي للأعمال اليدوية كما قرر له سلفا. لم يكن يؤرقه سوي شعوره المؤلم طوال الخمس سنوات الاخيرة الماضية بأنه مراقب طوال الوقت حاول ان يتجاهله كثيرا متشاغلا في كتابة اخر رواية انجزها وهو حر طليق. جلس يتذكر هذا اليوم الذي خط فيها اخر كلمة من كلماتها قبل ان يصدرها الي narr-egx حيث قام هذا الجهاز بمراجعة الرواية لغويا وقام بترقيمها ثم اصدار تقريرا شافيا وافيا لكل الاخطاء اللغوية التي ارتكبها في الرواية قرأه المواطن مستحسنا قلة هذة الاخطاء عن تقرير الرواية السابقة قبل ان يصدر اليه امرا ليستصدر منه قائمة بالاتجاهات السردية المحتملة للرواية ليفاضل بينها. ظل يراقب الجهاز لخمس دقائق كاملة قبل ان يخرج له الجهاز ستة عشر نسخة من الرواية كل نسخة بأسلوب سردي مختلف فمرة بتقنية القفز الي الماضي واخري بتقنية القفز الي المستقبل ومرة بالتشظي واخري بالتفكك ومرة بالسرد الخطي واخري بالقطع المتوازي.. الي اخره من الاتجاهات السردية القديمة والمستحدثة اطلق المواطن سبابا قصيرا بصوت خافت قبل ان يحتفظ بالنسخ ليدرسها ويقرر ايها اقرب الي قلبه ليعتمده فيصير هو النسخة الرسمية التي سيتم اصدار الرواية بها ومسح بقية الاقتراحات الاخري. علي مدار شهر التهم المواطن الستة عشر نسخة مستمتعا بكل منها كأنه عمل ادبي منفصل واجدا صعوبة في ان يقرر ايهما انسب لعمله من وجهة نظره قبل ان يقرر ان يختار احدهم. ولكنه وجد صعوبة بالغة في مسح النسخ الاخري قبل ان يقرر الاحتفاظ بالنسخة الاصلية للرواية في مكان ما بالجهاز معللا لنفسه انه قادر علي اعادة هذة العملية في أي وقت يشعر فيه بالحنين الي نسخ مختلفة للرواية. بعدها قام بتنسيق الرواية واخراجها فنيا قبل ان يبدأ رحلة البحث عن غلاف يناسب روايته. كان من مميزات انضمامه للفئات الابداعية السماح له بالدخول علي محرك بحث عليه اخر الانتاجات الفنية لكل مبدعي المجرة واستخدام أي من انتاجاتهم الفنية في عمله تحت قانون المشاع الابداعي الذي اصبح سائدا في هذة الفترة بعد ان شعر النظام ان الاستئثار بالعلم او الفن سيعيق تقدم البشرية ويؤدي الي تفاوتات في مستويات تمدن البشر يسعي النظام جاهدا لألغائها. لذلك قام بأدخال عشرات الكلمات الدلالية والمفتاحية التي تمس بشكل او بأخر موضوع روايته ليبحث داخل غابة من ابداعات مصممي الجرافيك والرسامين والمصورين وكل مبدعي الفنون البصرية وبعد ان قام بتقليص البحث في الفي رسمة وصورة بدأ في تصديرها للجهاز الذي قام بعمل خلطات مختلفة لعشرون غلافا ظل يتأملهم لمدة اسبوع كامل قبل ان يقرر ان يختار احدهم ليصير هو الغلاف الرسمي للرواية. بعد ان انتهي من اختياره قام بالبحث عن الرسومات والصور التي اختارها ولما لم يجدها اطمأن الي انه لن يحدث ثمة تشابه بين غلافه واي غلاف اخر فقد تم حجب عناصر غلافه من الظهور في محركات البحث بعد ان اختارها. قام برفع روايته ليتم مراجعتها من قبل مجلس الحكماء والموافقة علي نشرها بالتبعية ان حازت الرواية علي القبول وكان هذا إجراءا روتينيا مالم تحتوي الرواية علي محاذير لا يصح مناقشتها في رواية والتي كانت تتمثل معظمها في مناقشة او التشكيك في النظام اما غير هذا من الكلام في الدين والاله والجنس وغيرها من التابوهات التي اعتاد الكتاب في العصور السحيقة من الابتعاد عن الحديث فيها ولجوءهم للرمزية لتمرير ما يودون مناقشته من افكار تمسها فلم يعد هذا ضروريا في ايامنا هذة. بعد ان انتهي هذا المواطن من روايته جلس يفكر قليلا في إحساسه الذي لازمه طوال الخمس سنوات السابقة قبل ان يقرر ان يرمي جهاز narr-egx في مكعب اتلاف النفايات محاولا التخلص من هذا الشعور الذي اصبح هاجسه الاول دون ان يدري ان هذة المحاولة هي الخامسة له خلال السنة الماضية. لم تمضي دقائق معدودة حتي تم القبض عليه واصطحابه للمشفي النفسي بعد ان اصبحت التهمة السهلة الجاهزة لأي من يظن به اقل ظنون التمرد هي الميول الانتحارية. تم التحفظ عليه في حجرته التي رأيناه بها في اول الاحداث وتم اخضاعة لعدد كبير من الاختبارات النفسية التي قررت انه بحاجة الي جراحة نفسية يتم فيها استئصال هذة الفكرة من جذورها من داخل اغوار نفسه ولكن لوضعه الحساس لكونه كاتبا معروفا تم تخيره بين احتجازه للابد داخل المستشفي مع الحفاظ عليه في وضعية لا يستطيع ان يؤذي فيها نفسه او غيره وبين إجراء الجراحة له مع المخاطرة بفقدانه لقدراته الابداعية. آثر ان يحتفظ بقدرته ممنيا نفسه ان يستطيع ان يمرر بعضا من أفكاره في رواياته القادمة عله ينبه احدا بحقيقة ما يجري مدركا انه سيبذل جهدا مضاعفا لأخفاء افكاره عن اعين الرقباء الذين سيفتشون ما سيكتبه حرفا حرفا بحثا عن أي مخالفة مما قد يؤدي بطبيعة الحال الي عجز القارئ العادي عن اكتشاف مغزاه الدفين وفكره المختفي خلف ستار كلماته ولكنه آثر ان ياخذ بالاحوط لعل وعسي. لا يدري كم مر عليه في محبسه فقد كف منذ زمن بعيد ان يحتسب عمره بالايام والسنين ولكنه استعاض عن هذا بحساب عمره بالروايات التي قام باصدارها. وبعد ان صار عمره ستون رواية من العزلة الاضطرارية من احد الوجوه والاختيارية من وجوه اخري (فقد قاطع منذ روايات عديدة كل ما يمت للأخبار بصلة). قام المواطن بالاستماع لنشرة الاخبار ممنيا نفسه ان يستشعر ثورة ما او تغيرا طرأ علي عالمه تأثرا بكتاباته التي افني عمره في زرعها بالرموز متمنيا ان ياتي عليه اليوم وهو حي الذي يجني فيه قطاف هذة الرموز. اشار برأسه نحو التلفاز لتنفتح صورته علي مذيعة تعلن عن اذاعة بيان لمجلس حكماء الكوكب بعد قليل انتظر الدقائق التي تسبق اذاعة البيان علي احر من الجمر ممنيا نفسه ان يلمح في البيان ادني اختلاف في السياسات والتوجهات بدأ البيان بالديباجات والمقدمات المعتادة قبل ان يعلن مذيع الربط قيام الكاتب (ذ م ك 3524) بألقاء بعض قرارات المجلس الجديدة عند سماع المواطن للأسم اعتراه الذهول لثوان فقد كان الاسم الذي القاه المذيع يشبه الي حد التطابق اسمه ولكنه اقنع نفسه انه اخطأ بالسمع وانتظر متلهفا خروج هذا الشخص ليلقي قرارات المجلس. اقتربت الكاميرا من وجه الرجل الرصين الذي يتحدث بكلمات وحروف فخمة عن قرارت المجلس التي لم يسمع المواطن منها حرفا واحدا فقد كان من يلقي القرارات صورة طبق الاصل منه. ظل المواطن ينقل بصره في ذهول بين التلفاز والمرآة قبل تقفز الحقيقة كاملة الي ذهنه بدون اية مقدمات ... مجلس الحكماء هذا هو مجموعة من الصور الهولوجرامية لمجموعة من الاشخاص الذين يتحفظ عليهم النظام في غياهب المستشفيات النفسية بدعوي ميولهم الانتحارية بينما هناك من يدير الكوكب في الخفاء لا بد انه هذا الذكاء الاصطناعي اللعين جاهد المواطن محاولا التخلص من قيوده وملامح وجهه اخذة في الاحتقان ودقات قلبه تتصاعد بقوة وهو يتحرك حركات عصبية بلا جدوي فالقيود اقوي منه قبل ان تدوي صفارة الانذار في المكان ومرقاب القلب يعلن توقف قلب المواطن عن العمل بينما يهرع اليه اطباء وممرضين المستشفي ليلتفوا حول سريره محاولين انعاشه.

في صباح اليوم التالي يتلقي مدير المستشفي عبر بريده الالكتروني صورة موقعة من المواطن بموافقته علي اجراء الجراحة النفسية وطلبه ان يتم استئصال ذاكرته هي الاخري من رأسه. تمت العملية في غضون ايام بسلام وتم اعطاء المواطن رقما كوديا مختلفا اطول بكثير وتم الحاقه باحد الاعمال اليدوية ليمتهنها الي نهاية عمره عاجزا عن تفسير سبب احساسه الدائم بانه مراقب.

تأليف محمود ابو العلا .... جميع الحقوق محفوظة 


هل اعجبك الموضوع :
انا مخرج وروائي وسيناريست وعملت بعدد من الوظائف داخل الحقل السينمائي

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع